قد يستوي لنا أن نسمها بالنظرية العصرية في قوانين الجزاءات.. اتجاه عقابي صرت تنحاه أكثر الأنظمة القضائية الدولية، فباتت قضية مناقشة مستقلة (في الأوساط القضائية والاجتماعية والتربوية) وسمت بالبدائل الاجتماعية للعقوبات السالبة للحرية، وتباينت حولها الافكار من محمس لتلك الغرامات البديلة ومن معارض لها، وتعود هذه الجزاءات البديلة لدى استيضاحنا لأساسها والعودة له لكونها (داخلة في باب التعزير) وهو باب ممتد، والتقديرات العقابية فيه متوفرة للقاضي انطلاقاً من أسفل جزاء وهي العتاب بالعبارة إلى أغلظ إجراء عقابي وهي القتل.
وما أنسب أن أسوق هنا لمحة عن التعزير، فيأتي في اللغة: لمعاني الحظر والرد والتأديب، فهو من أسماء الأضداد، فالعقوبة التعزيرية تحظر المخالف أو الجاني من الرجوع لهذه المخالفة أو الجناية، ورادع لغيره من ارتكاب مثلها، وفي المصطلح: جزاء غير قدرة شرعاً، تجب فعلاً لله إيتي، أو بالفعلً للعبد.
فأول موجباته: هو الذي تعلق به الاستفادة العام أو ما يطلق عليه الحق العام. والآخر: هو المرتبط بنفع لشخص محدد أو ما يطلق عليه الحق المخصص.
وهو إجراء عقابي مفوضة إلى وجهة نظر القاضي، أي تستأنف حمد القاضي الذي يلزم أن يأخذ في تقديره باعتبارين لدى الحكم بتلك الإجراء التأديبي هما: الفاعل، ونوعية الإجراء الجرمي أو المخالفي. فهما أساس في إمتنان الجزاء التعزيرية. أفاد ابن عابدين في حاشيته: (إن التعزير يتفاوت باختلاف الأفراد، فلا معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه، فيكون مفوضاً لوجهة نظر القاضي يقيمه بمقدار ما يشاهد تحقق المنفعة به). (وفي حمد التعزير ينظر إلى حال الجاني، فإن من الناس من ينزجر باليسير، ومن ضمنهم من لا ينزجر سوى بالكثير).
وهنا مسالة أجد موقف إيرادها وهي: هل يمكن لنا القول أن التأديب يتفاوت عن التعزير، فمن إتجاه تلقائي البحثية في الأمر لأجد ثمة فارقاً لغوياً بينهما، فالتأديب يجيء لمعنى التوجيه والتعليم والعقاب والصيانة، إضافةً إلى كونه واحد من معاني التعزير مثلما قدمت. وأما من الناحية الاصطلاحية فلعل قاعدة مشروعية الجرائم والعقوبات (لا جرم ولا جزاء سوى بنص) تقودنا إلى إجابة في إبانة المختلف بينهما إن وجد. فالقاعدة الشرعية منصوص بها على أن الإجراء لا يحتسب مجرماً ومعاقباً فوق منه سوى بنص من المشرع. إلا أن قد ينص المقنن حتّى بالفعلً ما يعد مخالفة ويسكت عن تحديد عقوبته، فلا أجد أن ذاك التصرف يرتفع لتسميته “جرم” لأن الموضوع الشرعي أَطلَق عليه مخالفة، وترك إشادة المعاقبة أعلاه للقاضي، قلت: ولما كان المقنن لم يستعمل في الموضوع لفظ الحظر إطلاقاً على هذا الإجراء إلا أن استخدم لفظ المخالفة، فما المانع من افتتاح لفظ التأديب بمقابل التعزير على عقوبته، لكون إصطلاح التأديب يحس بأنه فترة دون فترة التعزير ودون الإجراء التأديبي الجرمية.
وما استحثني لإبانة ذلك المسألة سوى دراسة عرضت ذات واحد من الصحف اليومية أثناء الأسبوع السابق ناقشت الاختيارات العقابية من الناحية التشريعية والاجتماعية والتربوية. فوجهت بعدها قاصداً قلمي ليخوض بصحبتي في عالم البحث ويسطر نتائجنا المتواضعة بجوهرة السيال.
وقد أصدرت هذه التعليم بالمدرسة نسباً متباينة لوجهات نظر أصحاب الاختصاص بخصوص هذه الموضوع، فنقلت لنا أن 52% من القضاة و42% من الضباط يتفرجون أن أجود أداة لمعاقبة المخالف هي السجن، وهو برأيهم الإجراء التأديبي الضرورية لغالبية الأعمال الغير شرعية، بينما أنهم لا يشاهدون عوضاً لذا، سوى البشرة أو الإفراج بكفالة.
وعلى الناحية الأخرى نجد أن 71% من الأخصائيين الاجتماعيين والتربويين يشاهدون أنه من الأساسي العثور على اختيارات عقابية، وهذا لكون دور التوقيف والمؤسسات الإصلاحية تشتمل أصناف متنوعة من المجتمع تغلب عليهم الأعراف الهدامة، فتنتقل هذه الأعراف والسجايا بين شخصيات ذاك المجتمع، فنصبح في مواجهة مشكلة هائلة ونحتاج إلى إرجاع إعداد وتدريب الفرد في أعقاب خروجه من الشركة الإصلاحية وتخليصه من هذه الطقوس الهدامة التي علقت به هنالك، ويعظم الأثر لو كان ذاك الفرد ما زال حدثاً، فإقحامه في دور التصليح على إثر مخالفة لم ترتق لتغدو جرم، يشكل ذلك في حاجز نفسه تحطيماً وإضراراً له مَهما إضرار. ايضاً من الممكن أن يكون ثمة انعكاسات سلبية متنوعة تطال هذا الواحد نتيجة هذه الجزاء، كتفويت الإمكانية المعيشية، وعرقلة قليل من المصالح الاجتماعية المأمورية، وجعل نظرة المجتمع له نظرة انتباذية دونية، فيما لو نظرنا إلى دافع ذاك لوجدناها مخالفة لا تصعد إلى تسميتها جرم ولم يصنفها المقنن سوى باعتبارها مخالفة، وقد يكون ضررها على الأرجح مقتصراً على الفاعل لا يتعداه إلى غيره. فألا يدعونا هذا كله إلى العثور على الاختيارات العقابية كالغرامات، والفريضة بفعل لمصلحة المجتمع، إذ صار ذاك الأخير مثلما أسلفت أداة تأديبية حضارية تذهب باتجاه إليها أغلب الأنظمة القضائية الدولية، وألا تستحق تلك النظرية القضائية السير بها باتجاه التطبيق.